النبي الأمي
بقلم د/ ليالي الرسول
النبي الأمي
ورد وصف النبي، صلى الله عليه وسلم، بالأمية في
آيتين متتاليتين من سورة الأعراف، الأولى قوله تعالى "الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ"، والأخرى "فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ".
والأمي هو
الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسبة إلى الأم، فكأنه بقي كما ولدته أمه لم يتعلم
القراءة والكتابة. يؤيد هذا قوله تعالى "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ
مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ".
فأميته، صلى الله عليه وسلم، من فضائله ومن دلائل
نبوته، لأنه لو كان يقرأ ويكتب لقال المكذبون المبطلون إن هذا العلم حصله
عن طريق القراءة والدرس.
ومما يدل على أن الأميين لا يكتبون عطفهم
على أهل الكتاب في قوله تعالى "وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ"، مما يدل على تغايرهما، فجعل أهل الكتاب
صنفا والأميين الذين لا كتاب لهم صنفا آخر.
ولأن الغالب على الأميين
قلة العلم فقد تطلق الأمية على من يقرأ ولا يفهم ، كما في قوله تعالى
"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ"،
والأماني هنا تعني القراءة؛ فنفى عنهم العلم وأثبت لهم القراءة، فكأنهم
يقرأون ولا يفهمون.
والقراءة والكتابة وسائل لحفظ العلوم وتعلمها،
فإذا أمكن تحصيل أعظم العلوم وأنفعها وأوسعها بلا قراءة ولا كتابة، كان ذلك
من أعظم المعجزات. وهذا هو حال النبي، صلى الله عليه وسلم.
وكذلك
حفظه، عليه السلام، للقرآن العظيم دون استعانة بكتابة أو قراءة، وعدم نسيان
حرف واحد منه، على طول المدة وكبر السن، معجزة أخرى، تدل على تأييد الله
وتثبيته. قال تعالى "سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ".
أما إذا علّم
الأمي غيره الكتاب والحكمة، فتلك معجزة أخرى أعظم وأكبر، فكيف أذا علم أمما
شتى وخلائق لا يعلمها إلا الله، وأجيالا متعاقبة. قال تعالى "هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن
كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ".
ولم يكن علمه علماً
نظريا مجردا، ولكنه علم نافع يظهر أثره على المتعلمين، فتزكو نفوسهم
وعقائدهم وأخلاقهم وأفعالهم. فبه، صلوات ربي وسلامه عليه، نقل الله الأميين
من الجهل إلى العلم ومن الظلمات إلى النور.
وتعليم الأميين
وتزكيتهم أصعب من تزكية المتعلمين. لأن المتعلمين يمكنك مخاطبتهم بلغة
العلم أما من لا يقرأ ولا يكتب فكيف تخاطبه وكيف تعلمه، ولكن نبي الأميين
لم يعلمهم الكتاب فحسب وإنما علمهم الحكمة أيضا، حتى صاروا أئمة للناس
وملأوا الدنيا إيماناً وعلما ورحمة وعدلا.
وإذا أقر العلماء بعلم
العالم وصدقوا حديثه، كان ذلك شهادة أخرى على علمه. فشهادة عالم واحد خير
من شهادة ملايين الجهلة، فكيف بشهادة جميع علماء الأمم الفاضلة السابقة.
قال تعالى "أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ"، وقال "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ"، وغيرها.
ومن أعظم بركات أميته وأمية أمته، أن تكون شريعته أمية أيضا، كما قال، صلى الله عليه وسلم
"إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ" متفق عليه.
فهي شريعة لا تحتاج إلى حسابات معقدة، ولا فلسفات مبهمة، ولا مرجعيات
كهنوتية تتستر بالألقاب الفارغة، وتحتكر الدين، وتأكل المال الحرام، ولكنها
شريعة عذبة المورد، سهلة المأخذ، ميسرة لكل الناس بتيسير العزيز الرحيم
الذي قال "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ".
والله أعلم
ليست هناك تعليقات